حين يصبح الماضي عبئًا: لماذا تنهار الشركات العملاقة فجأة؟

في زمنٍ تتسارع فيه التحولات وتتهاوى فيه عروش الشركات الكبرى، لم يعد البقاء حليفًا لأصحاب التاريخ العريق أو النجاحات الماضية. هذا المقال يكشف كيف تتحول أفضل الممارسات إلى قيود خانقة تجر المؤسسات نحو القاع، ويقدّم خارطة طريق للتحرر من أسر الماضي، وهدم الكتيبات الخفية التي كبّلت الابتكار، وبناء عقلية المبتدئ التي تمنح الشركات القدرة على إعادة اختراع نفسها وصناعة مستقبلٍ يستحق البقاء.

حين يصبح الماضي عبئًا: لماذا تنهار الشركات العملاقة فجأة؟
الحلقة المفرغة لأفضل الممارسات: الطريق السريع إلى القاع


في عالم الأعمال، ليست السقوطات الكبرى حكرًا على الشركات الصغيرة أو المغامرات الفاشلة، بل كثير من عمالقة الأمس وجدوا أنفسهم فجأة على حافة الانهيار. ما يجمع بين هذه القصص أنّها لم تبدأ بكارثة واضحة، بل بإصرار خفي على التشبث بالماضي. شركاتٌ ضخمة حققت أمجادها من خلال منتجاتٍ كانت يومًا ما أيقونة النجاح، ثم أقنعت نفسها بأن ما صنع المجد بالأمس سيصنع المستقبل بالضرورة.

لكن الأسواق لا تعترف بالحنين. فمع تغيّر أولويات المستهلكين وتبدّل موازين التقنية والاقتصاد، تصبح بعض المنتجات عبئًا ثقيلًا لا ميزة تنافسية. قطاع البتروكيماويات اليوم مثال حيّ لهذه المفارقة؛ فالشركات التي بنت ثرواتها على الوقود الأحفوري تواجه عالمًا يتجه بخطوات سريعة نحو الطاقة المتجددة والابتكارات الخضراء. وبينما يواصل البعض الدفاع عن أسواق آخذة في الانكماش، يتسرب من بين أيديهم المستقبل الذي يكتبه لاعبون جدد بعقلية مختلفة.

إنّ مأساة هذه المؤسسات لا تكمن في ضعف قدراتها، بل في وهم الثبات. التشبث بالممارسات التي نجحت بالأمس هو ما يدفعها إلى الاقتراب من القاع، لأنّها تتجاهل الحقيقة البسيطة: كل نجاحٍ تاريخي يصبح بلا قيمة عندما يتغير السياق الذي وُلد فيه.

حين نتأمل في مسيرة المؤسسات الكبرى اليوم، نكتشف أنّ الكثير منها يسير على سكّة صمّمها الآخرون منذ عقود، مطمئنةً إلى ما اعتاد العالم تسميته بـ «أفضل الممارسات». هذه العبارة التي توحي بالكمال تخفي وراءها إدمانًا مؤسسيًا على التقليد، وتواطؤًا غير معلن على تكرار نفس الإجراءات حتى بعد أن تغيّر الزمن وتبدّل السياق. ما كان يوماً قاعدةً للنجاح قد يصبح في لحظةٍ عبئًا خانقًا، يستهلك الموارد ويُبقي المؤسسة سجينة أمجادٍ مضت، بينما العالم من حولها يندفع إلى الأمام بسرعة البرق.

إنّ المشكلة ليست فقط في «أفضل الممارسات» نفسها، بل في العقل الذي يتعامل معها كقوانين مقدّسة لا تُمسّ. الموظف يكرّر ما وجده أمامه لأنّه «الآمن» و«المتعارف»، والمدير يراهن على خطط قديمة لأنّها تحميه من المساءلة، فتتحوّل المؤسسة إلى كائنٍ يراقب ذاته أكثر مما يراقب السوق، ويدور حول إجراءاته بدل أن يلاحق الفرص الجديدة. وهكذا تنشأ الحلقة المفرغة: كلما ضعفت النتائج، تمسّكت المؤسسة بما تعرفه أكثر، فازدادت ضعفًا، حتى تتجاوزها الحياة.

البقاء في هذا الزمن لم يعد رهينًا بالتطوّر البطيء، بل بالقدرة على تفجير الأرثوذوكسيات القديمة، وتفكيك ما نظنّه راسخًا. كل قاعدة لا تُسأل عن سبب وجودها هي بداية سقوطٍ مؤجل. المؤسسات التي تنجو هي تلك التي تمتلك شجاعة المبتدئ: عقل فارغ من الغرور، ممتلئ بالأسئلة، يرى في كل ممارسةٍ احتماليةً للإلغاء أو إعادة الاختراع.

إنّ المؤسسات التي ستعيش هي تلك التي تجرؤ على هدم أسوارها الداخلية قبل أن يهدمها السوق، وتعيد اختراع نفسها كلما شعرت بالراحة المفرطة. فالبقاء لم يعد هديةً تمنحها الخبرة أو التاريخ، بل مكافأة شجاعة على من يملك عقلية الانطلاق الدائم.

حين تتأمل في سلوك المؤسسات الراسخة، تجد أن ما يعيقها ليس فقط البطء الإداري، بل مجموعة من «الكتيبات الخفية» التي تتحكم في تصرفاتها دون وعي منها. هذه الكتيبات ليست سوى تراكم لعقودٍ من النجاحات الماضية، تحوّلت إلى تعليمات مقدسة تفرض نفسها على كل قرار جديد. غير أن عالم اليوم، بما يحمله من تسارعٍ تقني واقتصادي، لا يرحم المؤسسات التي تتمسك بها.

يمكن تلخيص هذه الكتيبات في سبعة أنماط متكررة، كل واحد منها يبدو منطقيًا على السطح، لكنه يزرع بذور التراجع في العمق:

  1. كتيب التوسع التقليدي: الاعتقاد أن النمو يعني بالضرورة بناء فروع جديدة أو زيادة خطوط الإنتاج. بينما اليوم، قد يكون النمو في إعادة ابتكار النموذج نفسه لا في تضخيمه.

  2. كتيب البحث عن الكمال التشغيلي: الهوس بتقليل الأخطاء وتحقيق الانسيابية التامة، حتى يصبح الابتكار نفسه خطراً يجب تفاديه.

  3. كتيب استرضاء العملاء بما يطلبون لا بما يحتاجونه: المؤسسات تصغي إلى ما يقوله العملاء اليوم، وتنسى أن ما لا يتخيله العميل بعد هو ما سيحدد نجاح الغد.

  4. كتيب التخطيط بعيد المدى الجامد: بناء استراتيجيات تفصيلية لعشر سنوات قادمة في عالم يتغير في أشهر، فتتحول الخطة إلى قيدٍ بدل أن تكون دليلًا.

  5. كتيب المنافسة على معايير الأمس: التركيز على سباق الأسعار أو الحصة السوقية التقليدية، بينما المنافسون الجدد يغيرون قواعد اللعبة نفسها.

  6. كتيب حماية السمعة بأي ثمن: الهوس بالمخاطرة الصفرية، فيتحول الخوف من الفشل إلى شلل كامل يمنع أي تجربة حقيقية.

  7. كتيب تقديس البنية المؤسسية: الإيمان بأن الأنظمة والسياسات التي بُنيت في الماضي يجب أن تبقى للأبد، حتى لو أصبح وجودها عائقًا أمام كل خطوة إلى الأمام.

تحطيم هذه الكتيبات ليس تمرينًا في الشجاعة النظرية، بل ضرورة وجودية. فكل مؤسسة تريد البقاء اليوم عليها أن تتخلى عن وهم أن الماضي ضمانٌ للمستقبل. الجرأة تكمن في أن تقول: «ما كان سببًا في انتصارنا بالأمس، قد يكون أثقل قيودنا اليوم». وحين نمتلك الشجاعة لتمزيق هذه الأوراق، يبدأ التحول الحقيقي.

حين نُسقط الكتيبات القديمة ونعلن التحرر من أسر الماضي، نكتشف أن الفراغ الذي يتكوّن ليس عيبًا بل فرصة نادرة. هذا الفراغ هو اللحظة التي تستعيد فيها المؤسسة قدرتها على النظر إلى العالم بعيون جديدة، كما ينظر المبتدئ إلى الأشياء لأول مرة، بلا تحيزات ولا قيود.

إنّ إعادة البناء بعقلية المبتدئ تقوم على أربعة مبادئ محورية تشكّل حجر الأساس للتحول الجذري:

  1. العودة إلى الإنسان قبل النظام:
    كل مؤسسة وُجدت لتؤثر في سلوك البشر بطريقة ما؛ عميل يشتري، موظف ينتج، أو شريك يتعاون. حين تنحرف البوصلة نحو العمليات والأرقام وحدها، تفقد المؤسسة جوهر رسالتها. لذا، يجب أن يُبنى كل قرار استراتيجي على فهم عميق للإنسان، وما الذي يحركه اليوم، وما الذي قد يغيّر سلوكه غدًا.

  2. النظر بعين المبتدئ لكل ممارسة:
    أعظم قيمة يمتلكها القادم الجديد لأي قطاع هي قدرته على طرح السؤال الذي يخشاه أصحاب الخبرة: «لماذا نفعل هذا أصلًا؟». إنّ مؤسسات المستقبل هي التي تمنح موظفيها حرية التفكير بهذا الشكل، وتتعامل مع كل ممارسة راسخة باعتبارها فرضية قابلة للنقض.

  3. تبني فكرة الزوال المستمر:
    ما يُبنى اليوم ليس مقدسًا غدًا. الأنظمة، والهياكل، والخطط الاستراتيجية يجب أن تُنشأ بعقلية المؤقت، بحيث يسهل تفكيكها وإعادة تشكيلها كلما تغيّر السياق. الاستقرار الحقيقي لم يعد في الصلابة، بل في القدرة على التحول السريع دون فقدان البوصلة.

  4. التجربة بخطوات صغيرة قابلة للتصحيح:
    المؤسسات العظيمة لم تعد تلك التي تراهن على قفزات كبرى واحدة، بل تلك التي تجرّب باستمرار، وتتعلم بسرعة، وتصوب مسارها دون خوف من الفشل الصغير. التجارب المصغرة المتتابعة تصنع تراكم معرفة يختصر الزمن ويمنح الثقة في مواجهة المجهول.

بهذه المبادئ، تتحول المؤسسة من كيان يختبئ وراء ماضيه إلى كيان حيّ يتنفس التغيير، يراقب التحولات بعين يقظة، ويعيد اختراع ذاته كلما اقتضت الظروف. إنّها لا تنتظر المستقبل، بل تبنيه بوعي، كما يفعل المبتدئ الذي يندهش بكل شيء ويجرؤ على كل شيء.